Posted on Leave a comment

المسلمين في الغرب الفجوة التي لا يمكن القفز عليها (2)

بقلم الدكتور علي الشرفي

تعاني مجتمعاتنا من فجوة هائلة بينها وبين كثير من المجتمعات الأخرى، ولذلك أصبحت التسمية الشائعة الملازمة لنا بـ(دول العالم الثالث أو الدول النامية). تلك الفجوة الحضارية لم تعد علمية أو أخلاقية أو سياسية فقط، بل الأمر الصادم أن نتحدث عن فجوة تتعلق بالمجال الذي نظنه أنه أهم عامل من عوامل تميزنا عن الآخرين (انتماء الدولة الديني) والذي يظهر أن الفجوة في هذا المضمار كذلك واسعة.

تفاجأت بأحد المعلمين الذين تأثرت بهم في دراستي -وهو ممن يتبنى فكرة التميز المجتمعي عن الآخرين بسبب انتماء الدولة الديني ويرددها كثيرا- أنه قد انتقل إلى العمل في أمريكا، وبعد مدة من الزمن تمكنت من الاتصال به،

ولما سألته. كيف انتقلت من اليمن وبلاد العرب إلى أمريكا! -رغم أن سؤالي كان استغرابا من تناقضه بين ما كان يقوله لنا في فصول الدراسة وبين هجرته إلى البلاد التي كان يخبرنا أنها كفر بواح وشر محض وتعاسة مطلقة إلا أنه ظن أنني أسأله عن كيفية الحصول على هذه الفرصة الذهبية- فقال لي: ذلك فضل الله ورزقه الذي ساقه لي من حيث لا أحتسب.

ليست المشكلة في أن يكون لكل إنسان حرية التصور والحكم على الحضارات والدول والمجتمعات، إنما المشكلة في الازدواج والتناقض في التصورات والأحكام على الآخرين، فمن ناحية نعتبرهم كفارا أشرارا ومن ناحية أخرى تتوق أنفسنا للحاق بركبهم.

في إحدى زياراتي الأولى لأوروبا استضافنا صديق في ايطاليا، وكان في الحضور أحد الدعاة الذي استفاد من المناسبة فتحدث عن الولاء والبراء، وكان مما طرحه أن الحصول على جنسية دولة غير مسلمة تعتبر معصية قد تصل بصاحبها إلى درجة الكفر لأنها تغيير في الولاء.

بعد الانصراف سألني الذي اصطحبني إلى مكان الوليمة عن رأيي في كلامه -وأردت أن لا انساق إلى دائرة التراشق في الحوار والفتوى- فقلت له: لكل إنسان قناعة وهو مسؤول عنها. قال: ليست المشكلة في القناعة. قلت: فأين المشكلة؟ قال: هذا المتحدث له أكثر من سنة عندما قدم طلب الجنسية. تفاجأت وقلت له: غير معقول، لعلك تتوهم أو سمعت من مصدر غير موثوق أو لعلها تغيرت قناعته. قال: أقسم بالله أنه يسعى وراءها ولا يفوت فرصة إلا ويسأل من لديه معرفة ليتجاوز بعض العراقيل التي أمامه، ويبحث بكل الوسائل ليتمكن من الحصول عليها وأنا مطلع على التفاصيل.

حاولت أن أتعرف أكثر على الدوافع التي تجعل مثله يقع في هذا التناقض الفج بين القول والفعل، وقد كان بإمكانه أن يعرض عن مثل هذه المواضيع، فوجدت أن أهم الأسباب هو الصراع الداخلي بين ثقافة تربى عليها منذ نعومة أظافره وبين واقع يعيشه ويحتاج إليه.

في أحد المراكز الإسلامية الإيطالية كنت ألقي محاضرة ، وفي الختام سألني أحد الحاضرين عن معنى وتأويل الحديث النبوي الذي يتحدث عن فتح روما ومتى يتحقق. قلت له على هيئة مزاح: هي مفتوحة لا تغلقها بسؤالك.

قال: ما فهمت.
قلت له: ممكن تخبر الحاضرين بقصة (فلان) الذي زارنا في رمضان الماضي -وهذا الشخص هو والد صديقه-.
قال: نعم، هذا الشخص لم يكن مرتاحا لبقاء ابنه في هذا البلد ولذلك كان يرفض زيارته إليه، وقبل رمضان بحوالي ثلاثة شهور جاء لزيارته ومكث لمدة أسبوعين فقط ثم عاد إلى بلده وقدم على تأشيرة جديدة مباشرة ثم تفاجأنا به يتصل ويخبرنا بأنه سيصوم رمضان عندنا.
سأله ابنه: سلامات يا والدي، لنا عدة سنوات نحاول نقنعك تزورنا وأنت ترفض، والآن تأتي زيارتين متتاليتين في نفس العام وفي بداية رمضان!!
قال: لقد شعرت بسكينة وطمأنينة في مسجدكم، ووجدت نشاطا ودروسا وحلقات قرآن وذكر لم أعرفها في بلدي منذ أن رأيت الدنيا، فأردت أن أقضي رمضان عندكم.
قلت للشاب: هذا هو شرح الجواب.
قال: فهمت.

ويكمن أحد أسباب هذا التناقض في تعريفنا أو معرفتنا لمعنى دين الدولة، ومعنى الدولة المسلمة. فكثير من أبناء مجتمعاتنا ينظر إلى دين الدولة من خلال دين الحاكم أو المسؤول الأول في الدولة بغض النظر عن دستورها ونظامها.

والذي يظهر أن الدولة ليست مخلوقا عاقلا يفكر ويتخذ قرارا حتى يتنزل عليه التكليف الديني فيقوم بتنفيذه، ولا كيانا يملك مشاعر حتى يحاسب يوم القيامة بين يدي الله فينال جزاءه.ولذلك لن نجد يوم القيامة أن الحضارة الفرعونية أو مملكة سبأ في قعر جهنم ولا مع أصحاب اليمين، إنما نجد أفرادا يُحاسَبون على أعمالهم لأنهم كانوا يملكون حرية اتخاذ القرار، ويأخذون جزاءهم لأنهم مكلفين ويملكون احساسا يتلذذ بالنعيم ويتألم من الجحيم.

وفي تصوري أن القرآن الكريم حينما يذكر الدولة أو ما يمكن تفسيره أنه يتحدث عنها فإنه يتحدث عن قيمها ومبادئها المتمثلة بالعدل والشورى لا عن دين حكامها.

كتبت مرة تعليقا على صورة ميركل وهي مسترخية تحت ظل شجرة (حكمت فعدلت فأمنت فنمت- بكسر التاء)، فأرسل لي صديق مقيم في أوروبا على الخاص يسألني: برأيك ما هو شعور وتفكير المواطن الألماني حينما يقرأ منشورك؟
قلت له: ما الذي تقصده بالضبط؟
فقال: (حينما يقرأ المواطن الأوروبي مدحا وثناء من مواطن لمسؤول فإنه يستغرب لأنه لا يرى في الحاكم إلا مجرد موظف مؤقت يقوم بواجبه، إن أحسن فقد قام بواجبه وإن أساء ينبغي أن يُحاكم.وهذا يشبه عندهم من يشكر أستاذاً بمجرد أنه يذهب إلى المدرسة كل يوم ليدرس الطلاب رغم تقاضيه راتباً لا مدحه لمزية خاصة على بقية المعلمين، أو كمن يشكر موظفاً في مصلحة حكومية لمجرد أنه يداوم كل يوم من بداية الدوام الى نهايته لا لمزية تميز بها عن غيره.إضافة إلى أن من يحكم هي مؤسسات صلبة وفرق مختلفة كل منها يعرف صلاحياته، والمسؤول مجرد مدير ومنسق لهذا الفريق وتلك المؤسسات، ولذلك لا تستطيع ميركل أن تصرف لزوجها يورو واحد لأن أوامر الصرف ليست مطلقة بيدها، وكل مسؤول في مؤسسته أوسع صلاحية وأقوى سلطة منها.

يختتم كلامه قائلا: جيناتنا تميل بشكل غريب إلى مدح الحاكم والنظام مع الأسف، لذلك من السهل أن يتحول الحاكم أو المسؤول الى ديكتاتور بينما الغربيون لا يميلون كثيراً الى هذه الأمور وكلمات الشكر عندهم للمسؤول محدودة جداً وأحيانا تكون منعدمة).

سألني صديق عن سبب وأد الشورى بعد ثلاثين سنة فقط من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بينما تستمر بعض الدول اليوم مئات السنين على نهج ديموقراطي واضح ومستقر!
فقلت له: لقد أسس النبي صلى الله عليه وسلم لقيم الدولة النموذجية لكن بعض تلك القيم لم يدم طويلا فتحولت إلى دولة وراثية تتنازعها الأسر والعوائل المختلفة، ولعل واحدة من أهم أسباب ذلك أن الشورى كانت في عهد الخلفاء ثقافة نخبة لم تمهلهم الظروف حتى يحولوها إلى ثقافة مجتمع. بينما هي اليوم في هذه البلدان ثقافة مجتمعية. وتحويل مفاهيم الشورى أو الديمقراطية إلى ثقافة مجتمعية تخالف طموحات الطوائف الدينية الضيقة والأحزاب المتطرفة والطامعين في السلطة انجاز غير يسير.

ختاما
١. إن كان لأي دولة من دين ينبغي أن نعرفه ونسأل عنه فهو العدل والشورى وكرامة الإنسان.
٢. يمكن لأي نظام متمسك بالقيم النبيلة أن ينتكس في أي لحظة والعكس صحيح، فدوام الحال من المحال.
٣. ليس في كل ما سبق مدحا لنظام بعينه ولا العكس، إنما هي قيم ومبادئ عامة أقرها الإسلام وتحبها الفطرة وتتحقق بها المصلحة يقترب منها نظام ويبتعد عنها آخر فنتنادى حولها لعل حالنا يتغير من النظر في ظهور السابقين والاستمتاع بانتقاد خطواتهم من خلفهم لنستفيد من أسباب تقدمهم، وبكل شرف ننافس ونسابق ليتحقق التدافع الإيجابي البنَّاء في هذه الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *